حين يتخاصم الحب: صراعات الإخوة ودفء العلاقة

المشاجرات بين الإخوة ليس نهاية الود… بل بداية النضج
د. محمد سامي
مدير مركز قرار للتدريب والاستشارات
استشاري التربية الخاصة والعلاقات الأسرية
في كل بيت تُسمع فيه أصوات أطفال يتخاصمون، ويتبادلون الشكوى، ويتنافسون على اهتمام الأم أو على لعبة صغيرة، يقف الأهل في حيرة بين التدخل والسكوت، بين الحزم واللين. غير أن ما يراه الكبار صراعًا مزعجًا هو في جوهره تجربة إنسانية عظيمة تشكّل أول مدرسة اجتماعية في حياة الطفل. فالعلاقة بين الإخوة ليست مجرد وجود مشترك تحت سقف واحد، بل هي أول مرآة يرى فيها الطفل ذاته من خلال الآخر، وأول ساحة يختبر فيها مشاعره الحقيقية، من الحب إلى الغيرة، ومن الأنانية إلى العطاء، ومن الخلاف إلى التسامح.
يبدأ الطفل رحلته في التعرف على العالم من خلال هذه العلاقة، إذ يتعلم أن الحب لا يعني التملك، وأن المشاركة لا تُفقده قيمته، وأن الخلاف لا يُنهي المودة. في لحظات الغضب والمشاحنة، يتعلم الطفل اللغة بطريقة أعمق مما نتخيل، فالصراع يدفعه إلى التعبير، إلى الدفاع عن رأيه، إلى صياغة جمل تحمل موقفًا وانفعالًا، ومن هنا ينمو نطقه وتتطور لغته لأن اللغة بطبيعتها تولد من الحاجة إلى التواصل، والحاجة لا تشتد كما تشتد في لحظات الاختلاف. ولذا نجد أن الطفل الذي يعيش في أسرة متعددة الإخوة غالبًا ما يتحدث مبكرًا، ويتقن مهارة الحوار أسرع، لأنه يعيش في محيط لغوي متفاعل، يسمع ويُسمع، يرد ويُرد عليه، ويتعلم من كل جدال كلمة ومن كل خلاف أسلوبًا في الإقناع أو الدفاع أو الاعتذار.
وحين يتشاجر الإخوة ثم يتصالحون، تنمو فيهم بذور الذكاء العاطفي، إذ يكتشف كل منهم أن الغضب شعور عابر، وأن الحنين إلى الضحك واللعب مع أخيه أقوى من أي خلاف. تلك اللحظات الصغيرة التي يراقبها الأهل من بعيد دون أن يدركوا قيمتها هي ما تصنع لدى الأبناء القدرة على التسامح في الكبر، وعلى تجاوز الخلافات في العلاقات الزوجية أو المهنية لاحقًا، لأنهم تمرنوا منذ الصغر على أن الخلاف جزء من التواصل وليس عيبًا فيه.
وفي الطفولة، قد تكون المنافسة على لعبة أو حضن الأم، لكنها في المراهقة تتخذ شكلاً أعمق، إذ يبحث كل منهم عن اعتراف بتميزه، عن مساحة تعبر عن شخصيته، عن مكانة خاصة وسط الأسرة. وهنا قد يزداد التوتر إن لم يكن الوالدان على وعي بأن المقارنة بين الإخوة تُحدث شروخًا في الحب، وأن تفضيل أحدهم أو الإشادة المتكررة بإنجازاته أمام الآخرين تُولد شعورًا بالنقص والرفض. إن الأبناء لا يحتاجون مساواة ميكانيكية، بل يحتاجون عدلاً عاطفيًا، وعدلاً في الإصغاء، وعدلاً في الثقة.
ومن المهم أن يدرك الأهل أن العلاقة بين الإخوة هي أول نموذج يتعلم منه الطفل كيف يتعامل مع أقرانه في المجتمع، فهي التي تشكل طريقته في التفاوض، وفي التعاطف، وفي وضع الحدود، وفي بناء الصداقة. صداقة الإخوة هي أول صداقة حقيقية في حياة الطفل، فهي ليست مؤقتة ولا مشروطة، بل ممتدة بعمق الدم والذاكرة. وحين يكون البيت مليئًا بالحوار والضحك، وحين يتعلم الإخوة أن يختلفوا دون أن يهجروا بعضهم، فإنهم يحملون هذا النضج معهم إلى العالم الخارجي فيكونون أكثر مرونة وتفهمًا وتسامحًا.
أما عن دور الوالدين، فهو أن يكونا مظلة حب تحمي العلاقة بين أبنائهما دون أن يتحكما فيها. فالتدخل المفرط يُضعف استقلالهم، واللامبالاة تُشعل التنافس السلبي. على الأبوين أن يوجها لا أن يحكما، أن يستمعا لا أن يقارنا، وأن يثقّا أن الصراع بين الإخوة ليس خطرًا يجب القضاء عليه بل درسًا يجب متابعته بحكمة. يمكنهم أن يشجعوا أبناءهم على الحوار الهادئ، وعلى التعبير بالكلمات لا بالأيدي، وعلى التفكير في حلول ترضي الطرفين بدل البحث عن المخطئ فقط. كما يجدر بالوالدين أن يُثنيا على لحظات التعاون بينهم أكثر من لحظات الخلاف، وأن يحتفيا بأي مصالحة صغيرة كما يحتفيان بإنجاز مدرسي.
ولكي تنمو علاقة الإخوة قوية ومتوازنة، على الأهل أن يتجنبوا المقارنة بأي شكل، وألا يجعلوا أحدهم معيارًا للآخر، بل يتقبلوا اختلافهم باعتباره جمالًا لا خللًا، فلكل طفل ميزاته ونقاط ضعفه، ولكل منهم طريقته في الحب والنجاح. وعندما يشعر الأبناء أن حب والديهم غير مشروط، وأن الخطأ لا يُفقدهم مكانتهم، وأن الاختلاف لا يقلل من قيمتهم، يصبحون أكثر قربًا من بعضهم وأكثر أمنًا في علاقتهم بالحياة.
إن الخلافات بين الإخوة رغم أنها تزعج الوالدين وتبدو أحيانًا مرهقة، هي في حقيقتها نواة النمو الاجتماعي السليم، والتدريب الأصدق على التعامل مع الآخرين، وهي أيضًا مصنع أول للمشاعر الكبرى: الحب، الغيرة، الغفران، والحنين. فحين يجلس الأخوان بعد خصام طويل ويتبادلان الضحك من جديد، يكونان قد تعلما درسًا في الحياة لا يُدرّس في أي كتاب. إنها علاقة الحب التي تعرف الغضب لكنها لا تعرف الفراق، وتعرف الخلاف لكنها لا تعرف الكراهية، علاقة الجذور التي تمتد فينا حتى بعد أن نكبر ونبتعد، فنظل نشعر أن هناك في مكان ما من يفهمنا بلا شرح، ويسندنا بلا طلب، ويحبنا رغم كل شيء.






