الخميس، ٦ نوفمبر ٢٠٢٥ - ١٦ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ - ٠١:٥٠ القاهرة
هيئة التحرير

رئيس مجلس الإدارة

م/عمرو محـمـد

المدير التنفيذى

د/أحمد عبدالـوهــاب

التلعثم… حين يتعثر الصوت وتتكلم الروح

img_preview
الناشر : خاص احتواء الاثنين، ٣ نوفمبر ٢٠٢٥ في ١١:١٧

د. محمد سامي سعيد

مدير مركز قرار للتدريب والاستشارات

استشاري التربية الخاصة والعلاقات الأسرية

التلعثم ليس مجرد صعوبة في نطق الكلمات، بل هو حكاية صغيرة داخل كل بيت، تبدأ حين يقف الطفل أمام كلمة لا تخرج كما أراد، فيرتبك وجهه، وتتوقف أنفاس الأم بين الخوف والشفقة، ويتردد الأب بين القلق والصبر. تلك اللحظة ليست عيبًا في اللسان، بل وجع في النفس يحتاج أن نسمعه لا أن نصححه فقط.

كثيرًا ما يبدأ التلعثم في سن الطفولة المبكرة، حين يكون الطفل بين الثالثة والسادسة من عمره، في مرحلة يفيض فيها الخيال وتزدحم فيها المشاعر أكثر من الكلمات. قد يكون السبب توترًا داخليًا، أو خوفًا من الخطأ، أو بيئة أسرية سريعة الإيقاع لا تمنحه الوقت ليُكمل جملته. وأحيانًا يكون السبب وراثيًا أو مرتبطًا باضطراب في تنظيم الإشارات العصبية بين الدماغ وأعضاء النطق.

لكنّ الأهم من السبب هو طريقة تعامل الأسرة، فالكلمة التي تُقال في تلك اللحظة قد تفتح جرحًا أو تزرع أملًا. الطفل الذي يُضحك عليه إخوته أو يُسكت حين يحاول أن يتكلم، يتعلم الصمت بدلًا من الشجاعة، أما الطفل الذي تُمسك أمه بيده وتقول له بهدوء: “خُذ وقتك يا صغيري، أنا أسمعك”، فإنه يتعلم أن صوته يستحق أن يُسمع.

التلعثم له أنواع مختلفة:

هناك التلعثم النمائي الذي يظهر في الطفولة ويختفي غالبًا مع النمو الطبيعي والدعم العاطفي، والتلعثم العصبي الناتج عن اضطراب في وظائف الدماغ، والتلعثم النفسي الذي يظهر بعد صدمة أو خوف شديد. لكن ما يجمع كل هذه الأنواع هو أن الكلمة حين تتعثر، لا تتعثر وحدها، بل تتعثر معها ثقة الطفل بنفسه.

رأيت في عيادتي حالات كثيرة كانت البداية فيها صعبة، لكن النهاية مشرقة.

هذه حالة “أحمد”، طفل في التاسعة، كان يخفض رأسه حين يُطلب منه القراءة أمام زملائه. لم تكن مشكلته في الحروف، بل في نظرات الآخرين. بعد جلسات من العلاج النفسي والنطقي، ودعم من والدته التي حرصت على ألا تُكمل كلماته عنه، بدأ أحمد يتحدث ببطء وثقة، حتى صار اليوم يُلقي الشعر في الإذاعة المدرسية.

وهذه حالة “سارة”، فتاة في الحادية عشرة، كانت تتلعثم حين تنفعل، لأن البيت كان مليئًا بالتوتر والصوت العالي. حين تعلمت الأسرة أن تهدأ وتستمع، بدأ لسان سارة يستعيد إيقاعه الطبيعي، وكأن الكلمات كانت تنتظر الأمان لتخرج.

العلاج لا يقوم فقط على الجلسات النطقية، بل على الاحتضان النفسي، فالتلعثم لا يُعالج بالفم وحده بل بالقلب أيضًا. يحتاج الطفل إلى تمارين تنفس، ونطق بطيء، وتدريب على الحديث أمام المرآة، لكن قبل ذلك كله يحتاج إلى أن يشعر بأنه لا يُنتقص منه شيء، وأن صوته جميل مهما تردد.

وللمدرسة والمعالج دور لا يقل أهمية عن دور الأسرة؛ فالمعلم الواعي لا يُفاجئ الطفل أمام زملائه ولا يطلب منه القراءة فجأة، بل يمنحه مساحة من الأمان والثقة، ويُشجعه على المشاركة دون خوف. والمعالج المتخصص لا ينحصر في تقويم الحروف، بل يغوص إلى ما وراء الصوت، فيعيد التوازن بين الفكرة والنَفَس، بين الإحساس واللفظ، حتى يستعيد الطفل ثقته بذاته قبل أن يستعيد طلاقة لسانه.

ولكل من يعاني من التلعثم…

اعلم أن صوتك ليس ناقصًا، وأن تلعثمك لا يُقلل منك، بل هو جزء من رحلتك نحو التعبير عن نفسك بصدق. لا تُخفِ صوتك، ولا تُسرع لتسبق الكلمة، فالقوة ليست في سرعة الحديث، بل في صدق الإحساس.

تحدث ببطء، وخذ نفسًا عميقًا قبل الكلام، واسمح لصوتك أن يخرج دون استعجال. مارس القراءة بصوت مرتفع أمام المرآة، وتحدث مع من تثق بهم دون خوف من الخطأ، فكل كلمة تنطقها اليوم بثقة، تمهد لطلاقة الغد.

تذكّر أن التلعثم لا يُقهر بالتحدي وحده، بل بالقبول، حين تُصالح نفسك وتؤمن أنك لست وحدك في هذه التجربة. استخدم تمارين التنفس البطني، وتعلم تقنيات الاسترخاء قبل المواقف الاجتماعية، وتحدث بوعيٍ لا بعجلة، فالكلمات حين تشعر بالأمان، تُخرج جمالها الطبيعي دون تردد.

أيها الأب، أيتها الأم…

حين يتلعثم طفلك، لا تُكملوا عنه الجملة، بل أكملوا معه الطريق. لا تُسرعوا في تصحيح لفظه، بل أبطئوا نبض خوفه. فربما كانت الكلمة المتعثرة اليوم هي بذرة لخطابٍ فصيح غدًا، إن وجد من يؤمن به. التلعثم ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها، حين نتعلم أن وراء كل صوتٍ متردد، قلبًا يبحث عن الأمان ليقول ما يريد بثقة وهدوء.

اعلن معنا
Ehtwaa_logo

احتواء نيوز هي منصتكم الأولى التي تجمع بين الصحة النفسية، والتربية الخاصة ، واللايف كوتشينغ ، في رؤية متكاملة تعزز نمو الإنسان ورفاهيته على المستويات كافة

اتصل بنا

العنوان : حدائق الأهرام - البوابة الأولي
الهاتف : 01556650744
الايميل : ehtwaanews@gmail.com
programming-jeeks Designed by